مظاهرات 17 أكتوبر 1961 الظروف وردود الفعل

مظاهرات 17 أكتوبر 1961 الظروف وردود الفعل
تحاليل الجمهورية
ينبغي أن نضع هذه المظاهرات في سياقها التاريخي، وذلك ما يجعلنا نعود بالذاكرة إلى دور الهجرة الجزائرية إلى أوروبا وفرنسا تحديدا، حيث فرضت ظروف العيش القاسية على الجزائريين مغادرة الوطن مكرهين، والالتحاق بفرنسا بحثا عن العمل، وهناك أخذ أولئك العمال الجزائريون في تنظيم أنفسهم في جمعيات ونقابات للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم المهنية، وفي ذلك السياق جاء تأسيس نجم شمال إفريقيا سنة 1925 كنقابة عمالية، ثم تحول إلى حزب سياسي بعد انسحاب العمال التونسيين والمغاربة منه.. كما تم تنظيم العمال الجزائريين خصوصا والمغتربين عموما بعد اندلاع الثورة في إطار فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا والتي كانت إحدى مقررات لقاء الصومام سنة 1956 حيث اعتبر التراب الفرنسي بمثابة الولاية السابعة في تنظيم الثورة، فأخذت هذه الهيئة على عاتقها تنظيم الجزائريين بفرنسا وتنسيق العمل من أجل مساهمة فعالة للمهاجرين في الثورة التحريرية مستغلين هامش الحرية الذي كان متاحا في فرنسا، وذلك بنشر الوعي من خلال الصحافة والندوات واستغلال حتى المقاهي، وأخذ نشاط الفدرالية يزداد بشكل مهم ومساهمة الجالية الجزائرية في الثورة أصبحت ركيزة أساسية في تمويل الثورة التحريرية حتى أن الباحث عمار بوحوش يذكر أن 80 بالمائة من تمويل الثورة كان من خلال مساهمات المهاجرين الجزائريين.. هذا النشاط بالتأكيد أزعج السلطات الأمنية في فرنسا خاصة العاصمة باريس، وللتصدي لذلك النشاط أصدر محافظ الشرطة في باريس يوم 5 أكتوبر 1961 قرارا يقضي بحظر التجوال يمس فقط الجالية الجزائرية يمتد من الساعة الثامنة مساء إلى الساعة الخامسة صباحا، وهو ما أربك قيادة فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا، وقيد نشاطها النضالي خصوصا بعد الحملات الشرسة التي كانت تقوم بها الشرطة الفرنسية، والرقابة الشديدة ضد كل الجزائريين، وشملت تلك الرقابة والقيود جميع نشاطات الجالية الجزائرية خصوصا العمال كتنقلاتهم وأنشطتهم اليومية فتمت مراقبة حتى المحلات، والمقاهي والمطاعم، ثم الفنادق التي كان يمتلكها جزائريون، أو يترددون عليها، وأصدرت تعليمات تفرض غلق كل هذه المرافق ابتداء من الساعة السابعة مساء.. وأمام هذه المضايقات والقيود العنصرية التي أقرها محافظ شرطة باريس المجرم "موريس بابون" بمباركة من وزير الداخلية الفرنسي آنذاك "روجي فيري" قررت فدرالية جبهة التحرير الوطني ألا تقف مكتوفة الأيدي وأنه من الضروري أن يكون لها رد على هذه الإجراءات التعسفية والوقوف إلى جانب الجالية الجزائرية، ثم مساندة قيادة الثورة خاصة وأن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كانت قد بدأت مسار المفاوضات مع الحكومة الفرنسية، وأنها بحاجة ماسة إلى تماسك اللحمة الوطنية الجزائرية بكل مكوناتها سواء في داخل الوطن أو خارجه، وفي هذا السياق اجتمع مسؤولو الفيدرالية في منطقة كولونيا يوم 10 أكتوبر 1961، وتقرر في هذا الاجتماع الحاسم دعوة الجزائريين إلى التظاهر سليما يوم 17 أكتوبر 1961 في أهم الشوارع الباريسية وساحاتها العمومية في نفس توقيت حظر التجوال، وذلك لكسر هذا القرار الجائر، وقد استطاعت فيدرالية جبهة التحرير في فترة وجيزة تجنيد آلاف الجزائريين وتعبئتهم، ثم توفير وسائل نقل المهاجرين الجزائريين خصوصا العمال منهم إلى العاصمة باريس لأجل القيام بمظاهرات حاشدة سلمية تجوب شوارع باريس لكسر قرار حظر التجوال وفي خلال ثلاثة أيام كانت الظروف مهيئة للعمل المتفق عليه، فاكنت بذلك هذه المظاهرات الحاشدة التي قام بها آلاف الجزائريين في مساء يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 1961، وقد جابت تلك الحشود من آلاف الجزائريين في مسيرات سليمية الشوارع الرئيسية في باريس مثل الحي اللاتيني، وساحة الأوبرا، ومنطقة سجن الباستيل نظرا لرمزيته وارتباطه بشعارات الحرية والاخاء والمساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية سنة 1789، وخرج المتظاهرون رافعين شعارات مؤيدة للثورة التحريرية وللحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ثم منددة بذلك القرار العنصري الجائر في حق الجزائريين، وقد تم التحضر لها بإحكام حيث يشير في هذا الصدد المجاهد علي هارون وهو أحد قياديي الفيدرالية أنه تقرر أن يكون الرد محكما يشمل مظاهرات يوم 17 أكتوبر، وفي اليوم الموالي أي 18 أكتوبر ينظم التجار الجزائريون إضرابا شاملا بغلق جميع المحلات، على ان يكون اليوم الثالث أي 19 أكتوبر خاصا بمظاهرات تقوم بها النساء الجزائريات يخرجن في مسيرات سلمية أمام الساحات العامة والمحاكم ومراكز الأمن .. خصص محافظ الشرطة في باريس المجرم موريس بابون حوالي 7000 شرطي ورجل أمن لمواجهة جموع المتظاهرين الذين قدرتهم بعض الصحف الصادرة آنذاك بما يربو عن 30 ألف متظاهر سلميا وقد استخدمت الشرطة الفرنسية لقمع المتظاهرين مختلف الأساليب الوحشية كالضرب بالعصي على الرؤوس، ورميهم بالقنابل المسيلة للدموع، واستخدام الرصاص بطريقة عشوائية، ناهيك عن رمي الكثير منهم في مياه نهر السين القذرة وهم مكبلي الأيدي والأرجل، وهو ما يضفي على هذه الممارسات صبغة جريمة دولة مكتملة الأركان ولا غبار عليها مما يحمل الدولة الفرنسية مسؤولية هذه الجريمة التي لا تسقط بالتقادم وتبقى وصمة عار في جبين الدولة الفرنسية، كما تبقى مسؤولية الأجيال في الجزائر للمطالبة بالاعتراف وتعويض المتضررين والضحايا.. قامت السلطات الرسمية الفرنسية بالتعتيم الإعلامي عن نتائج الأحداث، لم أشرات الى وفاة متظاهرين اثنين فقط وعشرات المصابين، لكن بعض الأصوات الحرة في بعض الصحف، أشارت إلى مقتل 40 جزائريا، وفقدان 800 آخرين، في حين بلغ عدد المصابين بفعل القمع ما يقارب 7000 مصاب بجروح متفاوتتة الخطورة، وتوالت عمليات القمع التي طالت الجزائريين المهاجرين بفرنسا حيث تم اعتقال ما يربو عن 30 ألف جزائري تم ترحيل أزيد من 20 ألف منهم إلى الجزائر وزج بهم في المعتقلات. رغم وحشية ردود الفعل الفرنسية تجاه هذه المظاهرات، وضخامة النتائج المترتبة عنه، إلا أنه كان لها جوانب إيجابية تمثلت في زيادة الوعي لدي الجزائريين، ثم دعمت نسيج اللحمة الوطنية واصطفاف الشعب مع جبهته وحكومته، كما قدمت دعما كبيرا لوفد جبهة التحرير في المفاوضات، حيث أثبتت للحكومة الفرنسية وللجنرال دوغول شخصيا أن الجزائريين يشكلون شعبا واحدا وأمة واحدة ملتفة حول الثورة وأن مطلب استعادة السيادة الوطنية لا تراجع عنه وهو ما تحقق بفضل تلك التضحيات الجسيمة.

يرجى كتابة : تعليقك