في يومٍ حمل بين طياته وجعًا ثقيلًا، انطفأ صوت من الأصوات التي شكّلت الذاكرة الفنية للجزائر، وانحنى ستار المسرح على واحدة من ألمع أسمائه: الفنانة باية بوزار، "بيونة"، تلك التي لم تكن مجرّد ممثلة كوميدية، بل ملامح وطنٍ من الفرح، وصوت ذاكرةٍ لا يندثر، ووجهًا ظلّ قريبًا من الناس كما لو أنه فرد من العائلة.
كانت بيونة قد دخلت المستشفى منذ الثلاثاء 4 نوفمبر، حيث استقبلها مستشفى باينام قبل تحويلها إلى مستشفى بني مسوس في مصلحة طبّ الرئتين بعد تدهور حالتها الصحية، وذلك بتوجيه من وزيرة الثقافة والفنون، مليكة بن دودة، التي أمرت بتوفير الرعاية العاجلة لها وتابعت وضعها بدقة.
واجهت الراحلة ضيقًا حادًا في التنفس، وصعوبة في وصول الأكسجين إلى الدماغ بسبب ضعف القدرة التنفسية، إضافة إلى مضاعفات مرتبطة بمرض السرطان الذي لازَمها منذ 2016.
وبرغم الألم، بقيت قوية، تحفظ ابتسامتها كأنها جزء من رسالتها الفنية الأخيرة.
تركت بيونة أثرًا لا يُمحى في الوجدان الجزائري من خلال أدوارها التي أسعدت أجيالًا كاملة، فقد كانت تجمع بين خفة الدم والعفوية، وبين التمثيل الواقعي الذي جعل حضورها على الشاشة جزءًا من تفاصيل البيوت الجزائرية.
وُلدت "بيونة" في 13 سبتمبر 1952 بحي بلوزداد بالعاصمة، ومنذ طفولتها، انجذبت إلى عالم الفن، فبدأت مغنيةً للألحان الشعبية والعاصمية كـ"المالوف" في الأفراح والمناسبات، حيث لفتت الأنظار بحضورها.
غير أنّ المنعطف الحاسم في مسيرتها جاء سنة 1973، عندما شاركت في فيلم "الدار الكبيرة" للمخرج مصطفى بديع، لتضع أول خطواتها في عالم التمثيل.
تميّزت مسيرتها بالغنى والتنوع، فقد جمعت بين المسرح والسينما والتلفزيون والغناء، وقدّمت فنًا كان مرآة للثقافة الجزائرية، وأسهمت من خلاله في التعريف ببلادها داخل الوطن وخارجه، خصوصًا في أوروبا، حيث عُرفت بأدوارها القوية وحضورها اللافت.
أما اسم الشهرة “بيونة”، فهو لقب عائلي التصق بها منذ الصغر، ليصبح لاحقًا أحد الأسماء الأكثر رسوخًا في الفن الجزائري والعربي.
لم تكن بيونة فنانة عادية، بل كانت ظاهرة… بدأت حضورها السينمائي الجاد في فيلم "ليلى والأخريات" (1977)، لكن نجوميتها الواسعة جاءت من براعتها الفريدة في الأدوار الكوميدية، لدرجة أصبحت معها "ضمان نجاح" لأي عمل تظهر فيه.
ومن أبرز محطاتها مسلسل “ناس ملاح سيتي” (2002–2005)، الذي لعبت فيه أحد أهم أدوارها، ليجعلها نجمة التلفزيون الأولى في الجزائر، وامتد صداها إلى الجاليات الجزائرية والفضاء المغاربي والأوروبي.
في صباح يغمره الحزن يوم الأربعاء، امتلأ المسرح الوطني بصمتٍ مهيب، وبحضور وزيرة الثقافة مليكة بن دودة، ومستشار رئيس الجمهورية المكلّف بالمديرية العامة للاتصال كمال سيدي السعيد، وعدد كبير من الفنانين، أُلقيت النظرة الأخيرة على جثمان بيونة فوق خشبة المسرح الوطني الجزائري. ذلك المسرح الذي أحبّته وأحبّها، والذي شكّل آخر محطة توديع قبل أن توارى الثرى في مقبرة العالية، بحضور ولديها اللذين ألقيا النظرة الأخيرة على والدتهما في مشهد مؤثر.
شهادات الوفاء والحزن
توالت الأصوات من كل من عرفوا الفنانة بيونة، لتشهد على مكانتها الفريدة في عالم الفن الجزائري، وعلى الحب الصادق الذي زرعته في قلوب الجميع.
وفي تصريح مؤلم محمّل بالحنين، قالت وزيرة الثقافة مليكة بن دودة:
«الفنانون ودّعوا بيونة من على خشبة المسرح… وهذا أظن أنه آخر ظهور لها. كانت تتمنى أن تخرج من المسرح واقفة، و نحن جدّ تعساء لفقدانها، فكانت آخر مرة رأيتها كانت مبتسمة، وأضحكتنا كما كانت تفعل دائمًا في الأفلام والمسلسلات.
وأضافت" بقيت كما هي، إلى آخر لحظة. هذا أمر مبهر، لأنها كانت دائمًا قوية، تحاول أن ترسم الابتسامة حولها. لم أرها يومًا امرأة حزينة أو متألمة… كنت أرى دائمًا بيونة كما عرفتموها، حضور هذا الجمع الكبير اليوم في المسرح الوطني دليل على أن هذه القامة التي شرفتنا دوليًا، نحن نحبها إلى آخر لحظة. ونقول لكل من يحبها داخل الجزائر وخارجها".. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
أما مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالمديرية العامة للاتصال، كمال سيدي السعيد، فقد قدّم التعازي لأسرة الفقيدة والأسرة الفنية عامة، وأسرة الفن السابع خاصة، وقال:
«لا يمكن تلخيص حياة ومسار باية بوزار المعروفة ببيونة وبيّن أن مشوارها طويل وغني، حيث قال:" اكتشفها مصطفى بديع رحمه الله، ولا يمكن ذكر كل الأفلام والمسلسلات التي شاركت فيها داخل وخارج الجزائر. ومن 1973 إلى آخر مسلسل لها “دار الفشوش” مع جعفر قاسم، ستبقى خالدة في أذهان الجزائريين، لأنها وحدها وحّدت كل العائلات الجزائرية عبر الشاشة الصغيرة، و سيبقى اسمها مكتوبًا بحروف من ذهب في المشهد الثقافي والفن السابع وفي الجزائر بصفة عامة».
الفنانون بدورهم لم يستطيعوا حبس تأثرهم:
عتيقة طوبال ذرفت الدموع وقالت:
«رحمك الله ويثبتك على السؤال… الجزائر اليوم فقدت قامة من قامات الفن الجزائري، ولا يوجد من يعوض بيونة».
عبد النور شلوش أوضح في تصريح له، أن الجزائر تفقد أيقونة من أيقونات الفن التمثيلي… وذكر: "كانت تتقمص أدوارها بامتياز حتى تتجاوز شخصيتها وتتقمص شخصيات المجتمع وغيره، لقد نجحت ودخلت قلوب الجزائريين وأحبتهم بصدق من خلال أدوارها التي أدتها بامتياز".
حسان كشاش نعى الراحلة بقوله:
«لها مسار فني حافل وأعمال متميزة في التلفزيون والمسرح والسينما… أعمال أوصلتها للعالمية، ولها جمهور في الوطن العربي. كانت تجمع بين البساطة والحب والمهنية… نسأل الله لها الرحمة».
أما المخرج جعفر قاسم، الذي حضر جنازتها بمقبرة العالية، فقال:
«عملت مع مخرجين كبار مثل مصطفى بديع، وعملت معها في “ناس ملاح سيتي” بأجزائه الثلاث،و كنت عندما أتحدث معها تعطيني أفكارًا للعمل… كانت مدرسة في التمثيل، عشنا معها تجربة فريدة من نوعها، وكان لي الحظ أن مشواري صادف مسيرتها المهنية».
وعند سؤاله عن إمكانية إنجاز فيلم أو مسلسل يخلّد ذكراها، ردّ قائلاً:
«لا بد من تخليد كل الفنانين الذين رحلوا والذين لا يزالون على قيد الحياة… يجب أن نعطي الفنان حقه في الحياة قبل الممات».
وهكذا، تتجمع الشهادات كخيوط ضوء أخير حول امرأة صنعت البسمة بينما كانت تخفي وجعها، وتركت أثرًا لا يمحوه الزمن، و في وداع بيونة، لا تبكي الجزائر فنانة فقط، بل تودّع فصلًا كاملًا من ذاكرة الضحك… ذاكرة ستظلّ شاهدة على أن البسمة قد ترحل، لكنها لا تموت.
رحلت بيونة، لكن أثرها باقٍ، وصوتها عالق، وابتسامتها حاضرة في كل لقطة وكل ذكرى.. غادرت الجسد، لكنها بقيت في قلوب الجزائريين، وفي ذاكرتهم الجماعية، وفي ذاكرة فنٍّ كامل صنعته بصدق، وتركته حيًا بعد رحيلها.
أكتب تعليقك