فلا تظلموا فيهن أنفسكم

فلا تظلموا فيهن أنفسكم
رمضانيات
قال الله تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} سورة التوبة الآية 36. إن الظلم حرام منهي عنه في كل الأحوال، وهو أشد حرمة حين يقع في الأشهر الحرم . والظلم يعرف عموما بأنه وضع الشيء في غير موضعه المخصص له ، ومن معانيه الجور، يُقال: فلانٌ ظلَم فلانًا؛ أي جار عليه ولم يُنصفه، والظلم معناه التّعدي عن الحقّ إلى الباطل، والتصرّف في ملك الغير ومجاوزة الحدّ ؛ إمّا بنقصانٍ أو بزيادةٍ؛ وإمّا بعدول عن وقته أو مكانه. وبناء على ذلك نستنتج أنّ الظّلم يعني: مجاوزة الحق والتّعدي على النفس أو على أموال الآخرين وأعراضهم وغيرها من الأمور. هل يظلم العبد نفسه ؟ نعم ليس في الناس من لم يظلم نفسه، ولكن ظلم الناس لأنفسهم يختلف، فهناك من يظلم نفسه بأن يحقق لها بعض شهواتها العاجلة من غير الحلال، ولكن هناك من يظلم تفسه ، فيورثها شقاء دائماً، مثل أن يجعلها تشرك بالله ويسمى ما يجره المرء على نفسه من أليم العقاب الناتج عن الشرك بالله ظلماً عظيما ؛ لأنه يضع نفسه في غير الموضع الذي خلقت من أجله، فإن النفس إنما خلقت لتكون مؤمنة بالله تعالى عابدة له، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }سورة الذاريات الآية 56. فإذا استعمل العبد نفسه في غير عبادة الله وطاعته ، يكون قد ظلم نفسه ظلمها عظيما لا مثيل له أبدا ، لِمَا يجلبه لها من الشقاء في الدنيا والآخرة بسبب شركه والعياذ بالله. لذلك سجل القرآن الكريم الشرك بأنه أعظم الظلم، لكونه يعم جميع الذنوب ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْر َتَتْبِيبٍ‏}‏‏ ‏سورة هود‏ الآيتان 100- 101‏ . وهكذا يكون المشرك قد بلغ بنفسه أعلى درجات الظلم . وحيث أنه لا يخلو امرؤٌ من ظلمه نفسه، لما في الإنسان من نوازع الهوى والشهوات والشرور، لذلك لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} سورة الأنعام الآية 82. شق هذا الامر على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، } سورة لقمان الآية 13 . أي : إن الظلم درجات فمنه ظلم عظيم وهو الشرك بالله تعالى - عياذا بالله منه - . ومن الظلم ما هو دون ذلك، و لأن الناس يعيش أكثرهم أسرى لظلم أنفسهم، فإن الحق سبحانه وتعالى هنا يحذر عباده من ظلم أنفسهم ، فيقول: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} - أي لا تظلموا أنفسكم في الأشهر الحُرم ، وهو وإن كان ظلم النفس عموماً، منهي عنه ، لكنه في الأشهر الحُرم أشد نهياً. وهو من هذا القبيل بالنسبة لشهر الصيام لانه شهر للطاعة والعبادة فلا ينبغي أن نجعل منه شهرا للمعصية . ونحن نجد القرآن الكريم يُذيِّل الآيات الخاصة بالنواهي بالتحذير من ظلم النفس مطلقا ، فيقول في شأن التعدي على حدود الله تعالى، وهي محارمه التي حرمها على عباده: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، } سورة الطلاق الآية 01. أي لم يحسن إلى نفسه حين جلب لها شقاءً ونقمة وعذابا أليما ، حيث جعلها تعذب بفعل المعصية ، وارتكاب المحظور، أو ترك المأمور، وكان بوسعه ألا يورد نفسه هذا المورد المهلك والمسيء للنفس . ولما كان حال الناس أنهم واقعون في ظلم أنفسهم لا محالة - إلا من عصمه الله تعالى - فإن القرآن يكرر التحذير من ظلم النفس . إن الواجب علينا ونحن في مدرسة الصيام أن نستغين بطاعة الله لننقذ انفسنا ونخلصها من كل انواع الظلم، طاعة لله وشفقة على هذه النفس ، فنحاذر من الوقوع في المعصية، وإن أصبنا ذنبا أووقعنا في خطيئة وجب علينا أن بادر بالتوبة النصوح التي تغسل الذنوب ، وتشفي من وبال الخطايا ، كما وترقِّي العبد إلى أعلى درجات العبودية، كما كان حال أبَوْينا آدم وحواء عليهما السلام، فإنهما لما أدركا شؤم المخالفة بالأكل من الشجرة التي نُهيا عن أكلها، توجها بالتوبة النصوح إلى الله ، قال تعالى : { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } سورة الأعراف الآية 23 فتاب الله عليهما وغفر لهما، وكذلك كان حال كليم الله موسى، عليه الصلاة والسلام، لما أدرك ظلم نفسه بانتصاره للذي هو من شيعته على الذي هو من عدوه، فوكزه فقضى عليه، ولم يكن يقصد قتله، فما وسعه إلا أن ابتهل إلى الله تعالى بالاعتذار والإشفاق على نفسه، فقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ،} سورة القصص الآية 16 فكانت التوبة تشريعاً سماوياً لمن وقع في هذا الظلم، ورحمة من الله بعباده ، أن يبادر العبد بالتوبة وبالإنابة إلى ربه، وسيجد الله غفوراً رحيماً، كما أخبر سبحانه عمن يفعل ذلك بقوله جل شأنه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، } سورة آل عمران الآية 135. فإن هذا ثناءٌ بالغ على من اعترف بالحقيقة التي وصل إليها، وهي أنه ظلم نفسه، فأناب إلى مولاه سبحانه تائبا . فاللهم بصرنا بعيوب انفسنا وارزقها التوبة النصوح منها آمين

يرجى كتابة : تعليقك