تعتبر ورشة صناعة الفخار والزليج القديم من أعرق الفضاءات التي تحفظ وجه هذه الحرفة بتلمسان، نظرا لعودة استخدامها بشكل واسع وتزايد الطلب على استعمالهما في الحياة اليومية داخل المنازل، ومن بين الحرفيين الذين يهتمون بإحياء هذه الحرفة منذ الثمانينيات المهندس الكيميائي "مدلسي جزار سيدي محمد" الذي يشغل حاليا منصب مفتش متخصص في الحرف الفنية بالتكوين المهني، بحيث ينفرد بورشة الفخار التي كانت في السابق مخصصة صناعة "الحنبل التقليدي" على مستوى سيدي عيسى بالصفصيف بتلمسان، حيث استغل مكانها الشاغر مند التسعينات وقرر العمل فيها بدون آلات ما عدا "الفران" الذي يعتمد فيه على طهي القوالب بشكل الأواني و الأقداح و مربعات "الزليج".
تجمع هذه الورشة موروثات الماضي الجميل، بما يحمل من عبق العيش الطبيعي والراقي عند التلمسانيين، بحيث عاد الطلب على الفخار من صحون و إبريق للشاي و قُدور وغيرها، فجل المواطنين من مختلف ربوع الولاية وحتى من خارج الوطن يفضلون استعمال الفخار في الطهي والتقديم في بيوتهم، وحسب ما أوضحه الحرفي "مدلسي جزار سيدي محمد" فإن صناعة الفخار تشهد رواجا عند محبيها، لما تمثله من جمالية قديمة تعكس الميول الذي عاد إليه الكثيرون، وعليه يقوم كحرفي باحترام الطلبية التي تقدم إليه ويتقيد بتفاصيل صناعتها كما يرغب الزبون، وأغلب منتوجاته الحرفية تكون متنوعة تفاديا لتكدسها في الورشة والاقتصاد في المادة الأولية رغم وفرتها، والتي يجلبها من عدة نواحي على غرار "سيدي العبدلي" والمنطقة الصناعية ويتعامل أيضا مع الحرفي الدكتور بن يحي من منطقة الأمير التابعة لولاية تموشنت، لأن الجميع آمن أن الفخار هو الوحيد الذي يكون فيه الأكل صحيا، و يقضي على الأدوية الكيماوية التي تعالج به الخضر واللحوم البيضاء و الحمراء على حد سواء، بشهادة أطباء متخصصين في الأمراض السرطانية.
و تعتبر عودة المواطن إلى الفخار بمثابة حافز كبير للحرفي " مدلسي" الذي يعمل بمهارة بإتقان في ورشته التي تقع وسط الطبيعة المحاطة بالأشجار وبعض المخلفات العمرانية للاستعمار الفرنسي ، وهو ما يعزز شعوره بالإلهام و يجعله يعمل بشغف وصبر كبيرين، وأيضا بإصرار كبير على الحفاظ على هذه الموروث الذي يتزين بالزليج العريق ذو المربعات الصغيرة وبالألوان المزركشة التي تجذب الأنظار، وفي هذا الصدد يقول الحرفي" مدلسي" أن الزليج كان في الماضي يتناسب مع طلاء الجدران ويتساوى معها في اللون، وهي السمة التي تميز بها التلمسانيون في تزيين بيوتهم، ولهذا فهو يسعى إلى تشكيل " الزليج الانفرادي والمتعدد"، ناهيك عن ترقيته إلى استعمالات أخرى خارج أرضية المنازل.
تغليف طاولات الأكل بـ"الزليج" مشروع في الأفق
وبخصوص مشاريعه المستقبلية، أوضح الحرفي " مدلسي" أنه سيشرع قريبا في تغليف طاولات الأكل بقطع"الزليج" كواجهة لها، وهي الفكرة التي سيجسدها بعدما افترش الزليج غرف البيوت والباحات، وذلك من أجل الحفاظ على بقائه وضمان تداوله في العمران القائم في الوقت الحالي، معتبرا أن " الزليج" كموروث عريق يختلف عن البلاط العادي بكثير، نظرا لتناسق مربعاته الصغيرة التي تزيد الأرضية رونقا وبهاء، خاصة بالألوان الزاهية السارة للناظرين، و كشف الحرفي "مدلسي سيدي محمد" أن عشرات المنازل القديمة التي تعود إلى فترات بعيدة لما انهارت، ظهرت غرفها المزركشة بالزليج والذي بقي على حالته الطبيعية دون شقوق، على غرار تلك المتواجدة بشارع باريس والقلعة وغيرها كثير، حتى بمنازل المدينة القديمة بالمدرس المنجزة خلال حقبات متباعدة ، والتي خلفت وراءها إرثا مصدره بلاد الأندلس، وولج إلى تلمسان، وتفرق نحو عدد من مناطق الجزائر كبجاية، وقد طوره "بنو زير" حسب ما توصلت إليه أبحاث الحرفي "مدلسي" ، ليصبح انتماء تاريخيا يُقتدى به في جمالية الأرضيات التي تباينت في الغرف وقاعات الجلوس والمطبخ و"الصحن"(الحوش).
تجدر الإشارة إلى أن هذا الحرفي ظهرت بصمته في مسجد " سيدي إبراهيم" الأثري من خلال إعادة بعث الزليج بصورته الأولى، لأن عوامل الإهمال قضت على جزء كبير منه، و بفضل دراسة مقربة حاول الحرفي التوصل إلى نوع الزليج الأصلي "الزمردي " الذي كان يتواجد في الجامع الذي بني في عهد الدولة الزيانية، وهو المشروع الذي برز به في الوسط التلمساني، مما مكن الحرفي من تحقيق بحثه بمذكرته حول إنجاز عجينة بيضاء بمادة أولية محلية، بتواصله مع مؤسسة الخزف الصحي بمغنية.
ومن جهته قال "عبد الحكيم شايب الدراع: وهو ممثل عن معاهد التكوين المهني ويعد واحد من الحرفيين الأوائل في تلمسان إن الحفاظ على الموروث ضرورة جادة وتستطيع جميع الفنادق العمل بها ، بوضع كل ما هي أنية فخارية في أروقة و باحات الاستقبال واستعمالها في المطابخ و تقديمها للزبون ووضع قطع منها كزينة بغرف النوم لجذب الأنظار و إحياء الماضي بأغراض تجول وتجوب به عبر الأزمنة، خاصة و أن وزارة السياحة أعدّت مرسوما لجميع الفنادق من أجل خلق جناح له علاقة بكل ما تجتمع فيه الصناعات التقليدية للترويج بالموروث الذي تشتهر به الجزائر، من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، سيما وأن بلدنا تزخر بمهارات وحرف عديدة وهي أجمل صورة يجب تداولها انطلاقا مما تتزين به الفنادق من خزان تقليدي هو الأعرق في شمال إفريقيا .
